السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .. جزاكم الله خير الجزاء على ما تقومون به خدمةً للإسلام.
لديَّ مشكلةٌ تؤرِّقني، وهي أنَّني لا أستطيع البكاء !!. يمكن أن أحصر المرات التي دمعت فيها عيني عند الصلاة وعند قراءة القرآن في ثلاث أو أربع مرات، خلال ما مرَّ من حياتي، أنا أبلغ الآن ستًّا وعشرين سنة.
حتى عند استحضار آيات العذاب لا تدمع عيني، أشعر بالحزن داخلي وبقشعريرة، لكن لا أبكي، حتى في المواقف الصعبة لا أبكي، وأغبط من حولي عندما أجد سهولةً لديهم في البكاء.
أحياناً أتساءل مع نفسي: عندما سأفقد أحد والديَّ أو أحد إخوتي هل سأبكي أم لا ؟. طبعًا لا أحد غير الله يعرف أجلَ كلّ إنسان، لكن الموت علينا حقّ. هل أنا مريضةٌ بقسوة القلب ؟.
هل أنا ممَّن جاء فيهم: "اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من عينٍ لا تدمع، وقلبٍ لا يخشع" ؟. ما رأيكم في هذا الأمر ؟. وجزاكم الله خير الجزاء.
الرد
أختي الكريمة هند،
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
مشكلتك يا أختي الكريمة ليست في كونك لا تدمع عيناك، ولكن في فهمك لمسألة "البكاء"، لذلك سأقسِّم إجابتي إلى خمس نقاط:
1- العلاقة بين البكاء والقلب.
2- ماذا قال العلم في البكاء ؟
3- نظراتٌ في القرآن الكريم.
4- دعاء: "اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من عينٍ لا تدمع، وقلبٍ لا يخشع".
5- كلماتٌ في قسوة القلب.
1- العلاقة بين البكاء والقلب:
الدموع والبكاء يا أختي الكريمة وسائل لا غايات، فإذا تحقَّقت الغاية بأيِّة وسيلةٍ فلتذهب الوسائل الأخرى أدراج الرياح.
البكاء من خشية الله تعالى قد يكون علامةً من علامات رقَّة القلب، ولكن عدمه ليس علامةً من علامات قسوة القلب.
العلاقة بين الدموع ورقة القلب علاقة طرديَّة وليست عك*يَّة، بمعنى أنَّه من بكى من خشية الله تعالى فهو رقيق القلب، لكن من لم يبكِ ليس بالضرورة قاسي القلب.
إنَّ ما عليك البحث عنه يا أختي الكريمة هو النظر في قلبك، وفي تأثرك بكلام الله تعالى أو بالعبادة، وإحساسك بهذا بعيدًا عن النظر في عينيك.
لقد أخبرتِنا في رسالتك: "أشعر بالحزن داخلي وبقشعريرة لكن لا أبكي"، أليس هذا كافيًا ؟؟
2- ماذا قال العلم في البكاء ؟
الرأي العلمي يا أختي هند في موضوع البكاء يقول: إنَّ الدموع مرتبطة بالظروف الاجتماعية، وحسب ما يتربى الإنسان اجتماعيّا تتكوَّن علاقته بدموعه، حيث يوجد مركزٌ في المخ اسمه "مركز العواطف"، والتربية الاجتماعية هي التي تحدِّد درجة تأثُّر هذا المركز ومتى يرسِل تنبيهاته إلى العين كي تدمع، فمن نشأ في بيئةٍ تعوَّدت على البكاء عند الملمَّات تكون درجة تنبيهات مركزه العاطفي أكبر ممن نشأ في بيئةٍ تعاملها العاطفي مع الملمَّات أقل حدَّة، مع تسليمنا كذلك بطبائع البشر واختلافاتهم الداخلية، والتي عبرها يكون تأثُّر إنسانٍ بأمرٍ ما أكثر من تأثُّر آخر نشأ في نفس البيئة.
فالبكاء يتحكَّم فيه أمران: البيئة الاجتماعية والطبيعة البشرية، ولا عيب في أحد أينما نشأ أو كيفما هو داخليّا، وليس معنى إظهار أحدٍ لمشاعره بطريقةٍ أقوى من الآخر أنه أكثر رقَّةً في القلب، فالأمر ليس دليلاً عك*يّا كما قلت سابقًا.
3- نظراتٌ في القرآن الكريم:
إنَّ الله تعالى لم يُرِد منَّا أن تدمع عيوننا، ولكن أراد منَّا أن تخشع قلوبنا، ولننظر في القرآن الكريم في حال المؤمنين وحال الكافرين، لنتأكَّد أن الحديث موجَّهٌ ومعتمدٌ على القلوب لا على الدموع:
أ- حال المؤمنين:
* (ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحقِّ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلُ فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيرٌ منهم فاسقون).
* (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم).
* (إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِر الله وجِلَت قلوبُهم).
* (الذين آمنوا وتطمئنُّ قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئنُّ القلوب).
* (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعَلِم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحًا قرِيبًا).
* (إنَّ الذين يغُضُّون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيم).
* (لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوَادُّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيَّدهم بروحٍ منه ويُدْخلهم جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدِين فيها رضي الله عنهم ورَضوا عنه أولئك حزب الله ألا إنَّ حز* الله هم المفلحون).
ب- حال الكافرين:
* (أفلا يتدبَّرون القرآن أم على قلوب أقفالها).
* (وإذا ذُكِر الله وحده اشمأزَّت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة).
* (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم).
* (ذلك بأنَّهم آمنوا ثمَّ كفروا فطُبِع على قلوبهم فهم لا يفقهون).
* (كلاَّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يك*بون).
* (فلمَّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم).
هذه بعض الآيات وهناك غيرها، فالحديث كلُّه حديث قلوبٍ لا عيون، فإذا صلح القلب لم يعد للعين دور، فما هي إلا وسيلة، مجرَّد وسيلة.
4- دعاء: "اللهم إنَّا نعوذ بك من عين لا تدمع، وقلب لا يخشع":
إن هذا مجرَّد دعاءٍ لم يثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو ليس مقصودًا لذاته، وإنَّما لغايته، وهي الخشوع ورقَّة القلب، والقرب من الله تعالى، فإذا تحقَّق ذلك فلا مشكلة حينئذ، كما أنَّ نصَّ الدعاء يثبت ما أقول، فالدعاء يربط بين العين الدامعة والقلب الخاشع، في إشارةٍ واضحةٍ إلى هذه العلاقة التي يجب أن يكون مؤدَّاها رقَّة القلب لا مجرَّد دمعة العين.
ويؤكِّد هذا كلَّه أنَّ النصَّ الصحيح الثابت عن رسول الله صلى عليه وسلم في هذا هو: "اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يُستجاب لها" رواه مسلم.
فليس فيه ذكرٌ للعيون والدموع، وإنَّما للقلوب والخشوع.
5- كلمات في قسوة القلب:
إنَّ ما علينا البحث عنه بشكلٍ جدِّيٍّ هو قسوة القلب، أن نعرف علامات قسوة القلب، وأن ننظر في قلوبنا، هل تحقَّق فيها شيء من هذه العلامات أم لا ؟؟
ما القلب القاسي ؟:
القلب القاسي هو:
* الذي لا يخضع للحقِّ ولا يخشع أمامه.
* الذي لا تؤثِّر فيه النصيحة أو التحذير.
* الذي لا تؤثِّر فيه المشاهد التي تدعو للرقَّة، كتأوُّه المظلوم، أو شكوى اليتيم، أو عجز الضعيف، فيتصرَّف أمامها كمن لم يرَ ولم يسمع.
- أسباب قسوة القلب:
أسباب قسوة القلب كثيرة، منها ما ذكره الإمام ابن القيِّم رحمه الله تعالى حين قال: "وقسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة، وكما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب، فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ".
ثمَّ قال رحمه الله تعالى: "من أراد صفاء قلبه فليؤْثِر الله على شهوته؛ لأنَّ القلوب المتعلِّقة بالشهوات محجوبةٌ عن الله بقدر تعلُّقها بها".
كما تعرَّض أستاذنا فضيلة الشيخ عبد الحميد البلالي لهذا الأمر تفصيلاً في استشارةٍ سابقةٍ عنوانها:
كيف يحيي العبد قلبه، ويتغلَّب على شيطانه؟
وفي نفس الاستشارة وسائل لتقوية القلب وترقيقه أتمنى لو تقرئينها.
أختي الكريمة هند،
الدموع فقط ليست هي المقياس على رقَّة القلب، كما أنَّ عدمها لا يعني عدم الرقَّة، فقد يوجد شخصٌ كثير العبادة سامي النفس، لكن لا تظهر عليه آثار هذه الروحانيَّات، فليس من الضروريِّ أن يبكي لكي نَصِفه بأنَّه متفاعلٌ روحيّا، فليست الروحانيَّات مظاهر وحركات، وليس يعني أنَّنا لو رأينا شخصًا ما يقطِّب جبينه، أو يغمض عينيه، أو يتمايل تأثُّرا، ليس يعني هذا أنَّه أكثر تأثُّرًا ممَّن لا يُظهِر ذلك.
إن مقياس الخشوع والروحانيَّات مقياسٌ قلبيّ، ولا يمكن مشاهدته إلا عبر ظواهر معيَّنة، أهمُّها وأبرزها – من وجهة نظري - تحرُّكه وعمله وبذله للدعوة، حتى وإن بدا قاسي القلب جامد المشاعر.
ولعلَّ أبرز مثالٍ على ما أقول ما ورد عن الفاروق عمر رضي الله عنه، حين قال له رجل: إنَّ فلانًا رجل صِدْق، فقال له: "هل سافرت معه؟" قال: لا، قال: "فهل كانت بينك وبينه معاملة ؟" قال: لا، قال: "فهل ائتمنته على شيء؟" قال: لا، قال: "فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد!" رواه ابن أبي الدنيا والدينوريّ، بسندٍ حسن.
فالمقياس هو الفعل، وليس رفع وخفض الرأس في المسجد خشوعًا وتقوى.
يا أختي الكريمة، ما دمت تشعرين بالحزن في داخلك، وبقشعريرة عندما تستحضرين آيات العذاب كما تقولين، فثقي أنَّ قلبك حيٌّ، وأنَّك من المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى: "وقلوبهم وجِلة" إن شاء الله تعالى، حتى وإن لم تدمع عيونك، فالقلب هو المقياس لا العين.
طلبتِ رأينا أختي الكريمة، وهذا هو ما ارتأيناه.. والله أعلم.
وفقك الله، وننتظر ردَّك.